تمتاز العديد من مديريات محافظة حجة بطبيعة جبلية خلابة، إلا أن هذه الميزة الجغرافية تحولت إلى معضلة حقيقية بالنسبة لسكانها, فالجبال المتشابكة والتضاريس الوعرة، التي تمنح المنطقة طابعها المميز، أصبحت تعيق حركة التنقل اليومية، خاصة في ظل غياب بنية تحتية ملائمة وانعدام الطرق المعبّدة.
ففي عمق الريف اليمني، تتشابك الجبال الوعرة مع الأودية السحيقة، حيث تعيش آلاف الأسر في عزلة شبه تامة، محرومة من أبسط مقومات الحياة، وعلى رأسها الرعاية الصحية, هذه العزلة الجغرافية ليست مجرد عائق تنموي، بل تتحول يوميًا إلى فاصل قاتل بين الحياة والموت, ومأساة مستمرة.
عزلة
يعاني سكان مناطق جبلية مثل “الجميمة” شرق حجة من تحديات كبيرة بسبب الطرقات الوعرة التي تعيق تنقلاتهم اليومية, فالطريق الوحيدة التي تربط هذه المنطقة بعزل أخرى تتسم بالتضاريس الوعرة، والتي تعرف بـ “طريق بين الضب”، أصبحت شريان حياة وحيدًا بالنسبة للسكان الذين لا يملكون خيارًا آخر سوى الاعتماد عليها للوصول إلى مدينة حجة أو محافظة عمران.
يصف سعد المجش، أحد سكان “الجميمة”، الوضع بقوله: “نعيش في عزلة شبه تامة، إذ تقع منطقتنا على قمة جبل مرتفع، مما يجعل التنقل في غاية الصعوبة, كما أن هذه الطرقات لا تتحمل حركة السيارات، لذا يلجأ السكان لاستخدام الحمير لنقل البضائع والاحتياجات الأساسية”.
إحدى أكبر المشاكل التي تواجه سكان المنطقة هي صعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية. ويضيف المجش في حديثه لموقع “سقيف”: “أكثر ما يؤلمنا هو عجزنا عن إسعاف المرضى أو نقلهم إلى أقرب مركز طبي، حتى أصبحت حالات الوفاة قبل الوصول إلى المستشفيات أمرًا شائعًا، نتيجة لضعف الخدمات الصحية في المناطق المجاورة”.
وفي ظل هذه المعاناة اليومية، يطالب المجش المسؤولين المحليين والسلطات المعنية بسرعة التدخل لتحسين الطريق، معتبرًا أن ذلك سيخفف بشكل كبير من معاناتهم اليومية ويسهم في تحسين مستوى حياتهم.
وفي ذات السياق, فقد المواطن خالد جبران جدته إثر وعكة صحية وصفها بالبسيطة، إلا أن بساطتها لم تشفع لها أمام وعورة الطريق. “لا توجد سيارات تمر من هناك، الطريق غير صالحة حتى للدواب، فحملناها على نقالة خشبية وسرنا لأكثر من ثلاث ساعات حتى وصلنا للطريق العام، لكنها توفيت قبل أن نصل إلى المركز الصحي في عمران”، يقول خالد، بصوت يثقله الألم.
هذه القصة، على قسوتها، ليست استثناءً, ففي قرى مثل عراش وبني القارح، يعيش السكان في عزلة مزمنة، حيث يتحول أي مرض طارئ إلى مأساة محتومة، ليس بسبب نقص الكوادر الطبية أو شح الأدوية فحسب، بل لأن الوصول إلى الخدمات الصحية في حد ذاته مغامرة محفوفة بالمخاطر.
البنية التحتية المنهارة في الريف اليمني
تشير تقارير محلية ودولية إلى أن أقل من 11% من شبكة الطرق الريفية في اليمن معبّدة، في بلد تتشابك فيه التضاريس الجبلية مع الأزمات المزمنة, هذا الواقع يجعل التنقل من القرى إلى أقرب مركز صحي مهمة شبه مستحيلة، خاصة خلال موسم الأمطار، حين تتحول الطرق الترابية إلى مسارات موحلة ووعرة، وأحيانًا مغلقة تمامًا.
في مديرية كشر بمحافظة حجة، تروي أم فهد لـ”سقيف”، وهي أم لأربعة أطفال، كيف عانت أسرتها من هذا الوضع القاتل: “تعرضت ابنتي لتسمم غذائي حاد، واضطررنا لحملها على ظهورنا لمسافة طويلة حتى وصلنا إلى طريق ترابي، وهناك استأجرنا سيارة خاصة مقابل مبلغ باهظ, الطريق كان مظلمًا وخطيرًا، والمنحدرات مرعبة، واستغرقنا أكثر من أربع ساعات للوصول إلى المستشفى”.
ولا يختلف الحال كثيرًا في بقية المناطق الريفية، كما في منطقة مدوم بمديرية كحلان الشرف، حيث يعاني السكان من طرقات متهالكة بالكاد تصلح لعبور الدراجات النارية، وتفصلهم عن أي مرفق صحي يمكن أن ينقذ الأرواح.
وتأتي الكوارث الطبيعية لتفاقم هذه الأزمة, ففيضانات صيف 2024 تسببت في دمار واسع للبنية التحتية، وأغلقت طرقًا رئيسية وقطعت خطوط الإمداد، خاصة في محافظات مثل إب، البيضاء، وحجة, وتبقى مشاهد الخراب في محافظة المحويت، إثر السيول الجارفة الناتجة عن الفيضانات، شاهدة على هشاشة البنية التحتية وعجزها أمام أي طارئ طبيعي.
جهود متنقلة ومبادرات محدودة في مواجهة عزل الريف اليمني
في محاولة للحد من الكارثة الصحية التي يعيشها الريف اليمني، أطلقت منظمات دولية مبادرات نوعية تمثلت في إرسال فرق طبية متنقلة إلى المديريات النائية، حيث يشكل الوصول إلى المراكز الصحية تحديًا يوميًا للسكان, وبالرغم من محدودية هذه الموارد، فقد نجحت تلك الفرق في إنقاذ مئات الأرواح من خلال زيارات ميدانية دورية للمناطق الأشد حرمانًا.
من أبرز تلك المبادرات، مشروع نفذته مؤخرًا منظمة ألمانية في مديرية كحلان الشرف بمحافظة حجة، حيث عملت على إعادة تأهيل مستشفى ريفي كان خارج الخدمة لسنوات, ليكون منطلق للفرق الصحية المتنقلة, اضافة لكونه مستشفى رئيسي للمديرية, المشروع أسهم في توفير خدمات الرعاية الصحية لأكثر من 30 ألف نسمة، كانوا سابقًا يعانون من انعدام شبه كلي للوصول إلى العلاج.
ورغم أهمية هذه التحركات، فإنها تبقى حلولًا مؤقتة لا تعالج جذور الأزمة, فغياب الطرق الصالحة يبقى العائق الأكبر أمام أي تحسين حقيقي في الواقع الصحي للبلاد. ويؤكد الدكتور محمد صفي الدين، أخصائي الصحة العامة، في تصريح لموقع “سقيف”، أن “تحسين صحة السكان يبدأ من إصلاح الطرق التي تربطهم بالمستشفيات، لا يمكن فصل البنية التحتية عن النظام الصحي”.
في الأثناء، يمكن لتوسيع نطاق عمل الفرق الطبية المتنقلة أن يمثل حلاً مرحليًا فعّالًا، ريثما تتوفر البيئة السياسية والاقتصادية المناسبة لإعادة الإعمار الشامل. ويضيف الدكتور صفي الدين: “في ظل الانقسامات والأزمات المتلاحقة، تبقى المسؤولية مشتركة بين الجهات المحلية والدولية. نحتاج إلى استراتيجية وطنية واضحة لتحسين سبل الوصول إلى الرعاية الصحية، خصوصًا في القرى النائية، فالطريق إلى المستشفى يجب ألا يظل محفوفًا بالموت”.
تظل الطرق الوعرة والشاقة من أبرز التحديات التي يعاني منها سكان محافظة حجة، حيث تسببت هذه الطرق في تفاقم معاناة المواطنين بشكل ملحوظ, فالظروف الصعبة التي يعيشها السكان نتيجة سوء الطرق تؤثر بشكل مباشر على حياتهم اليومية، وتحد من قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والتجارة, وهذا يفرض على الجهات المعنية والسلطة المحلية ضرورة إيلاء اهتمام خاص لهذا الجانب الحيوي من الخدمات العامة.