قراءة في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري

7 فبراير 2025آخر تحديث :
قراءة في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري

على قمة عمره الطويل، الذي قضاه خارج سيرورة الحياة وخارج الشعور بالزمن، على الأرصفة والليالي الكسيرة، ومن وسط أَكْوَام القمامة المتراكمة في أزقة مدينتي طنجة والدار البيضاء، يتحدث الروائي المغربي محمد شكري في سيرته الذاتية والروائية “الخبز الحافي” عن العدميّة التي تستقبل الإنسان بالأحضان فور خروجه من بطن أمه، لتلازمه طوال حياته حتى ينتهي به المطاف إلى حفرة ضيقة أشد عدميّة وأكثر غموضًا.

الحياة غير مفهومة، شيفرة بالغة التعقيد إذا ما كبّل المرء جناح العواطف وحاكم وجوده عليها بعقلانية صرفة. يرى كل ما أمامه يعتريه الفناء، ليتحول إلى أطلال بالية كأن لم تعش يومًا واحدًا، أو كأن لم تكن هنا ذات يوم؛ فيلوذ إلى الحكمة، يفتش عن إجابات يقينية لسؤال البداية والنهاية، إلى الماهية والغائية، فيتسرب إلى أعماقه الفراغ والعدم والفوضوية والضياع.

هذا الاقتباس من شكري، كنصائح من حكيم عركه الزمن لا كأديب عايش وشاهد رحلة طويلة من العذابات واستخلصها:

“لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعي لعبة الزمن دون أن أتنازل عن عمق ما حصدته. قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتمًا طريقها، لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم أن تشعل عاطفة أو نزوة غافية، أن تشعل لهيبًا في المناطق الباردة وألا تهاب الموت. فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون والمراهقون، أيها العقلاء، لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا جميعًا، لعبة مميتة هي ولا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا، لإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة، أن ننشد الحياة بالغرق في العدم. أقول: يخرج الحي من الميت، يخرج الحي من النتن والمتحلل، يخرج الحي من المتخم والمنهار، يخرج الحي من بطون الجائعين ومن صلب المتعايشين بالخبز الحافي”.

*الخبز الحافي لمحمد شكري*

من أهم الروايات التي قرأتها وتأثرت بها، بصرف النظر عن الجانب المعتم فيها، هي إحدى السير الذاتية التي تُكتب بقالب روائي. يتحدث فيها الكاتب عن قسوة ذلك العصر، قسوة الوضع الشعبي العام والمصير الجمعي للمغرب العربي تحت غسق الاحتلال، وكيف كانت أحوال الناس. تعرض الرواية أيضًا جانبًا كبيرًا من الفوضوية التي تلحق بالإنسان، وكيف أن الظروف الجديدة تنجب إنسانًا آخر.

أول ما يلفتك انتباهك في الرواية، هو وصف شكري الدقيق والصادق للظروف القاسية التي عاشها: الفقر المدقع، الجوع، الضياع، التشرد، وهي ركائز رئيسية تشكل خلفية الأحداث الدراماتيكية التي عاشها، وينجح شكري في نقل مشاعر الإحباط واليأس والقتامة؛ لكنه في الوقت نفسه يعبر على الأمل المتستر والمقاومة التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من الروح الإنسانيّة.

جرأة الكاتب وصدقه ووضوحه وإخلاصه لوجه الحقيقة يُثيران الاهتمام وأحيانًا الغرابة. استطاع أن ينقل الكثير ويقول الكثير في وقت من الصعب أن يقول الإنسان شيئًا دون أن يناله الأذى. نتذكر على الدوام ونجعله نصب أعيننا بأن “لعبة الزمن أقوى منا جميعًا”، لعبة مخيفة ومرعبة.

في الجزء الأهم من روايته يتحدث محمد شكري عن طفولته الرمادية التي عاشها يتصارع مع قطط المزابل، من أجل الفوز بحاوية قمامة جيدة يجد فيها ما يشبع جوعه، يقول معبرًا عن قيمة الطعم في زمن الجوع والخصاصة “في زمن الجوع لا يوجد خبز سيء” هذه الطفولة التعيسة التي عاشها متشردًا بين أزقة مدينة “طنجة” التي عشقها عشقًا جاوز الخيال، فهي التي نحتت شخصيته وعمل فيها بائع خضروات في السوق وصانعًا في أحد المقاهي، أين تعلم في سن مبكرة تدخين “الكيف” وهو نوع من المخدرات المحلية وشرب الخمر ثم تحول بعد ذلك لعامل في مصنع طوب ونهاية يحترف السرقة في محطات القطار والأسواق الأسبوعية رفقة مجموعة من الصعاليك الذين يحكمون تحت زعامته الأزقة الخلفية المظلمة ويخضون المعارك الحاسمة، من أجل فرض سيطرة. يذكر محمد شكري براعته في خوض المعارك مع خصومه وبراعته في استخدامه لشفرات الحلاق، حتى أنه يذكر أنه في إحدى المعارك قام باستعمالها ضد خصمه وخرب له وجهه تاركًا له ندبًا استمر معه لبقية حياته.

أثار هذا العمل ضجة ومنع في معظم الدول العربية، إذ اعتبره منتقدوه جريئًز بشكل لا يوافق تقاليد المجتمعات العربية. لا يزال الكتاب ممنوعًا أو شبه ممنوع في أكثر الدول العربية.

وجاء شكري من عائلة بربرية فقيرة. عندما كان صغيرًا جدًا، سارت الأسرة إلى طنجة، وبقي لعدة سنوات مع والديه، على الرغم من أن والده يسيء إلى شكري وشقيقه ووالدتهما. في بعض الأحيان كانت الإساءة شديدة، فقد قتل والده شقيقه الذي كان في ذلك الوقت مريضًا، وظل محمد يعيش في الشوارع لبعض الوقت. كانت حياته عندما كان صغيرًا صعبة. لم يكن هناك تعليم متاح له. أقامه والده في وظائف وتقاضى أجره مباشرة وكان يضربه بانتظام. سجن والده لفترة وعاش محمد مع والدته وساعدها في بيع الخضار في السوق، لكن عندما عاد والده استمر الضرب. يقضي بعض الوقت في وهران والجزائر، لكن يبدو أنه عاد دائمًا إلى طنجة وإلى قبضة والده.

يرسم في هذا الكتاب حياته المبكرة حتى يبلغ من العمر 20 عامًا تقريبًا. تجربته كشحاذ أو لص أو مهرب أو بائع خضروات أو تاجر تظهر جانبًا حقيقيًا من حياة المحرومين في المغرب. إنه مكتوب ببساطة لكنه قوي. يتشارك شكري في نشأته الوحشية، لكن بصراحة وحشية، وفقر الحياة اليومية، وتجاربه (خاصة مع الجنس) ومعاركه والعنف السائد في حياته اليومية. مع انتهاء هذا الكتاب يتحول شكري نفسه إلى كاتب وإلى تعلم القراءة والكتابة. أصبح فيما بعد مدرسًا وكاتبًا.

الزمان والمكان وشخصيات الرواية:

في رواية “الخبز الحافي” توضحت الحقبة الزمنية مع مرور الأحداث، وكان تغير المكان هو العنصر الأهم الذي لعب دورًا أساسيًا في سير الأحداث، إذ بدأت الرواية عندما حلّت المجاعة على الشعب أثناء الحرب العالمية الثانية في ريف المغرب العربي، أي عندما كانت طنجة تحت حماية الانتداب الإسباني في الفترة بين عام 1940م، وعام 1945م، فدفع ذلك محمد شكري وعائلته نحو الهجرة إلى طنجة طلبًا للقمة العيش، لكن دون فائدة. بدأ يصف لنا الراوي محمد شكري معاناته في مواجهة العالم الخارجي، عندما كان يحاول توفير لقمة عيشه وهو طفل صغير، فعمل نادلًا، ثم عمل بصنع الفخار في معمل وما إلى ذلك من أعمال شاقة، وبعد ذلك العناء كان والده يستحوذ على كل ما كان يجنيه محمد من أجر حتى وإن كان مبلغًا زهيدًا من المال، وتدرج في الرواية ليخبرنا عن تجاربه الأولى في تعاطي الممنوعات وشرب الخمر وغيره. نظرًا لما قاساه محمد في حياته مع أسرته، فاضطر للذهاب إلى وهران ليستقر عند خالته، إذ عمل خادمًا عند إحدى العائلات الأجنبية، لكنه لم يتحمل طويلًا وعاد إلى طنجة مجددًا، وأثناء عودته وجد نفسه مشردًا مرة أخرى فدفعه ذلك للالتجاء إلى المقابر كي لا يتعرض للاغتصاب والاعتداء وربما القتل، ثم انضم لمنظمات تهريبية ساقته للسجن في النهاية لينال عقابه.

المكان عند محمد شكري (سجن الوطن ولا حرية المنفى) هكذا يصرخ الشوق في جسد محمد شكري إلى المكان والعلاقة الجذرية بالوطن من الساحات والأحياء وأزقتها الآسنة والحانات المشبعة برائحة القيئ، المواخير والمقاهي والبساتين الخضراء. وأنه يعرف مقابر الوطن المزروعة بالريحان ويعرف أيضًا عطور البغايا وأجمل بساتين وهران ويغور الوطن عميقًا في روح الكاتب ويستفز ذاكرته بالحاح، يدخل وطنه عبر بساتين الحشيشة وغيرها. كذلك يمكن أن نرى مشكلة عدم معرفة الكتابة والقراءة مع تعبير صادق في هذه الرواية. بدأ محمد يشعر بالنقص أمام المتعلم، يدفعه هذا الى إبراز عضلاته أمام قدرة المتعلم، رغبته كبيرة لتعلم القراءة والكتابة خاصة بعد ظهور الجمعيات السياسية. يخاطب أحد المتعلمين قائلًا “أنا أمي جاهل لكنك كذاب، أفضل أن أكون أميًّا وجاهلًا على أن أكونَ كذابًا مثلك”.

ينتهى الجزء الأول من سيرة محمد شكري الذاتية الروائية ويتبعه بالجزء الثاني “الشطار”، ثم يتبعه جزء ثالث “زمن الأخطاء”.

عندما كانت مدينة طنجة المغربية تحت حماية الانتداب الإسباني بين الأعوام 1940 و1945، أي خلال الحرب العالمية الثانية، تحديدًا بعدما استولى الجنرال فرانكو على الحكم في إسبانيا، رجع رجل مغربي إلى طنجة ومعه زوجته وابنان، هو في الحقيقة جندي من جيش فرانكو. نزح هذا الجندي إلى طنجة؛ بسبب أنها كانت ترتع بالأجانب والجواسيس والعسكر. وفي الرواية شخصيات مثل الابن الأوّل يدعى عبد القادر، أما الابن الثاني فقد كان أميًّا وليس له أي معرفة بالقراءة أو الكتابة، لكنّه في سنّ العشرين بدأ يتعلّم القراءة والكتابة بعد أن أمضى سنوات في التنقّل من عمل إلى عمل، فكان نادلًا وبائع جرائد وماسح أحذية…

استهل شكري روايته بذكر خاله، فقال “..أبكي ذكرى خالي..”، ثم توالى ظهور الشخصيات الرئيسية فقال الراوي “أمي تقول لي بين لحظة وأخرى، أسكت سنهاجر إلى طنجة، أخي عبد القادر، لا يبكي تقول أمي، دخل أبى، وجدني أبكي على الخبز، أخذ يركلني ويلكمني”.

فظهرت بذلك عدة شخصيات ومنها الخال، والأم، والأخ، والأب، والراوي في صفحة واحدة فقط من الرواية، وبعد ذلك دخل الأخ “عاشور” ثم تلاه ظهور الصديق “التفرستي”، فقدم شكري بذلك جميع الشخصيات الأساسية في الخبز الحافي، وكان الصوت الطاغي على الحوارات هو صوت الراوي.

يمكن تلخيص الشخصيات الرئيسية في الرواية بالأسماء الآتية:

محمد شكري هو بطل الرواية والراوي، الذي يعيش الفقر، والتخبط في حياته.

  • الأب “سي حدو علال شكري” هو شخصية قاسية جدًا، عنّف محمد شكري في طفولته، وضرب ابنه الآخر ضربًا مبرحًا حتى فارق الحياة.

الأم “سيدا ميمونة” هي شخصية ضعيفة ليس لها رأي، فقط تساير زوجها في إجرامه ولا تقوى على منعه.

القضايا المعالجة في الرواية:

يمكن أن نرى في بداية الرواية أقوال محمد شكري وهو يقول: حين يشتد عليّ الجوع أخرج إلى حيّ “عين قيطوط”. أفتش في المزابل عن بقايا ما يؤكل، وجدت طفلًا يقتات من المزابل مثلي. في رأسه وأطرافه بثور. حافي القدمين وثيابه مثقوبة. ومن هذه الأقوال بالجدير الذكر أن المجتمع المغربي يعانون بشدة الفقر والجوع. وهناك وجدت قياسًا بين مستوى حياة المسلمين والنصارى في الرواية باستخدام المحاورة التي جرت من قبل الكاتب مع ولد في طفولته. كذلك تعلن هذه الرواية الوحش وعد الثقافة السليمة بشخصية والد شكري، يقول شكري: “والدي يقتل أخي ثم يبكيه”.

عندما نسير مع حوادث الرواية نجد معالجة كاتب محمد شكري القضايا المتنوعة وهموم الإنسان العادي في روايته، وهي تكشف من جهة عن عيوب اجتماعية متفشية بلغة إبداعية تنقل الواقع إلى عالم الخيال والجمال. الخبز الحافي رحلة عبر الزمن تذهب بك إلى عمق النسيج المجتمعي لتقدم لك عينة مجهرية عن مخلفات الاحتلال الإسباني لطنجة وتطوان الذي كانت هذه المدن ترزح تحته؛ فهذا الدمار الذي ما زالت مخلفاته الباطنية تفتت أعماق المجتمعات التي زارتها الحرب دون استثناء، وبصفة خاصة دول العالم الثالث، هذه الدول التي ما زالت تعاني من مخلفات الحرب إلى اليوم ولم تشفَ من جرح الماضي، رغم ما يبدو على بعضها من التعافي الذي يخفي تحت جلده سرطانات التفقير والتهميش وسرقة الموارد الباطنية وتهجير الأدمغة الموروث الثقافي والمجتمعي. كل هذا وأكثر تنقله الرواية وتقدمه بطريقة تشريحية من خلال نموذج المواطن “محمد شكري” الذي يقف بين صفحات الكتاب ليقول بصوت واضح وعالٍ “سجن الوطن ولا حرية المنفى”.

وبالجملة رواية شكري تؤرخ لحالة البؤس والتهميش التي عاشتها شرائح عريضة من مغاربة ما قبل منتصف القرن الماضي، فيما «تقدم مغرب القاع الاجتماعي، مغرب المنبوذين والفقراء والأشقياء، مغرب كل تلك الشخصيات البسيطة التي يحولها الكاتب إلى كائنات ترفل في المطلق الإنساني، وترفض الحشمة الزائفة. إضافة يصور الكاتب القضايا السائدة في المجتمع المغربي مثل الاضطهاد والاستغلال وقضية انتشار الرشوة ونمط حياة الأطفال المهمشة والتفسح والانحلال الخلقي، ووضعية المرأة في المجتمع وتحديد النسل خوفًا من إعطاء الرزق للولد وغيرها.

استطاع الكاتب في روايته “الخبز الحافي” صورة حقيقية للمجتمع المغربي بأخذ كل نواحي حياته نموذجًا. هذه الرواية منعت في كل بلدان العرب بتوضيح الجنس بشكل عار. وهذه الرواية تندرج تحت ما يسمى بأدب الشُطّار؛ أي الحرافيش والمهمَّشين، تمثّل صدامًا حادًّا مع التقاليد العربية، فهي جريئة في مخاطبة السماء، وتحدّي سلطة الأب، وطرح الجنس كموضوع، وهي أمور لم تألفها الرواية العربية، ويمكن القول إنّ “الخبز الحافي” تعد وثيقة اجتماعية شديدة الأهمية تعكس حالة المغرب أثناء الاحتلال وبعده.

 

المصدر: مجلة فرقد الإبداعية

الاخبار العاجلة