صيرورة الفكر وكسر قيود اليقين

7 أبريل 2025آخر تحديث :
صيرورة الفكر وكسر قيود اليقين

صهيب المياحي:

إن الفكرة لا تنبثق في وعي الكاتب مكتملة، فهي تتحول إلى كيان فكري عبر صيرورة مستمرة من التفكيك والتركيب، حيث لا يكون الوعي مجرد حامل للمفاهيم الجاهزة، بل هو منصة لظهور الاحتمالات التي تأخذ شكلها من تفاعل الفكر مع العالم الخارجي. الفكر لا يولد كاملاً، بل هو حدث دائم التشكل، لا يعترف بالثبات، ولا يعترف بالنهايات. الفكرة هي كائن حي، يتولد في رحم التوتر بين الأسئلة والمُسلّمات.

المفكر لا يمتلك الحقيقة كما يمتلك الملك تاجه، بل هو جسر يوصل بين الممكن والمستحيل، هو كائن ينغمس في كل ما هو مُتغير، يختبر الأفكار لا ليؤكدها، ولكن ليعصف بأطرها التي تسعى للجمها في هيئات ثابتة. سقراط لم يكن يسعى إلى تقديم الحقيقة كمُلْك، بل كان يسعى لفتح الدروب المؤدية إلى الشك؛ حيث لا يُسلم للأجوبة الجاهزة، بل يعيد تشكيل الأسئلة في ذهن الآخر ليجعله يكتشف الزمان والمكان اللذين تذوب فيهما قناعاته الزائفة.

الفكر الذي يُقدَّم على أنه يقين لا يعترف بالمراجعة هو فكر ميت؛ إنه تجسيد لجمود الفكر الذي يتسم بالركود الذي لا يسعى للنمو. الفكر الحقيقي لا يُتوقع منه أن يقدم إجابات تنقض الأسئلة، بل أن يخلق تساؤلات تغزو أعماق الوعي، تضغط على معايير الفهم، وتحول الأنماط الفكرية من الاطراد إلى التفرد. الفكرة التي يُزعم أنها مكتملة، هي في ذاتها بداية موتها، إذ لا ديمومة لشيء، حتى للفكر الذي يتظاهر بالكمال.

من هنا يأتي وهم “المعلم المطلق”، الذي يُرفع إلى مرتبة السمو المعرفي، ظنًا أنه الأيقونة الأخيرة التي تحدد حدود العقل. لكن الحقيقة أن هذا “المعلم” لا يُعدو كونه آخر تجلٍّ للوعي الذي ارتضى أن يختزل نفسه في حزمة من المسلمات، لا يتخطاها ولا يسمح لها بالتوسع. الفكر لا يُختزل في شخص أو فكرة، وإنما هو شبكة معقدة من المعاني التي تستمر في التفاعل والتقاطع.

لا يوجد معلم في الوجود يتمتع بالمعرفة المطلقة، ولا وعي يرتقي فوق باقي الأذهان. الجميع يفكر، يدرك، ويبدع. ومع ذلك، يسعى الإنسان دائمًا إلى رفع بعض العقول إلى مرتبة من اليقين المطلق، فيتصور أن تلك العقول تحمل حقائق لا يرقى إليها الشك. في هذا السياق، يتم التضحية بالقدرة على السؤال والنقد لصالح تمجيد من يُنظر إليهم كمراجع فكرية ثابتة.

القيمة الحقيقية للفكرة تكمن في قدرتها على التحرك داخل العقول، في قدرتها على فتح الأفق أمام الفكر ليعيد اكتشاف نفسه. الفكرة التي لا تُثير تساؤلات عميقة تبقى مجرد تعبير سطحى عن المألوف. لا تكمن قيمة المعرفة في امتلاك الأجوبة الجاهزة، إنما في قدرتها على تحفيز الأسئلة التي تهز القناعات وتحفّز التفكير على التجديد.

إن معرفة الحقيقة ليست مجرد امتلاك لأجوبة، بل هي تلك العملية الحية التي تمنحنا الفرصة للتنقل بين الأفكار المتباينة، لتُثير فينا القلق الوجودي الذي يفتح نوافذ جديدة لاكتشاف اللامتناهي. الفكرة الحية هي تلك التي تسعى لتمزيق حدود معرفتنا، لا أن تُثبتها؛ فهي قوة غير مستقرة، لا تتوقف عند الزمان والمكان، بل تمتد لتكتسح التصورات الجامدة. الفكر الحق هو ذلك الذي يقاوم السكون، الذي يستدعي الحركة الدائمة للأفكار، ويجعلها تعيد ترتيب نفسها باستمرار.

الاخبار العاجلة