شهدت اليمن خلال السنوات الأخيرة انتشاراً واسعاً لتقنيات الطاقة الشمسية، في مشهد غير مسبوق، عززته ظروف الحرب والانهيار المستمر في البنية التحتية للكهرباء، والارتفاع المستمر في أسعار المشتقات النفطية؛ وبينما مثلت هذه الطاقة المتجددة طوق نجاة لملايين اليمنيين في الاستخدامات المنزلية، فإنها في الوقت ذاته باتت تمثل خطراً بيئياً صامتاً، خاصة في القطاع الزراعي.
لقد ساعد الاعتماد على الطاقة الشمسية في تشغيل الأجهزة المنزلية والمؤسسات الحكومية، وساهم في تقليل الاعتماد على الوقود، غير أن استخدامها في ضخ المياه الجوفية لأغراض الري، وخصوصاً في ظل غياب التشريعات البيئية والرقابة الحكومية، يهدد بمفاقمة أزمة المياه التي تعاني منها البلاد منذ سنوات، في غياب الحواجز والسدود ولذلك فإن سيول الأمطار عادة ما تتدفق إما إلى الصحراء أو البحر.
ويستهلك القطاع الزراعي في اليمن نحو 90% من الموارد المائية المتاحة، وهي نسبة كبيرة في بلد يُعدّ من أفقر دول العالم مائيًا، وقد أدى غياب التنظيم إلى حفر العديد من الآبار بشكل عشوائي، دون دراسة لحجم الاستهالك أو التأثير على المخزون الجوفي، ما يهدد بجفاف قادم، خاصة في الأحواض المائية الحيوية مثل حوض صنعاء.
الأزمة لا تقف عند حدود الاستهلاك غير المنظم للمياه، بل تتفاقم مع التوسع غير المدروس في زراعة نبتة القات، التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، وتزاحم المحاصيل الغذائية على الموارد، ومع أن الطاقة الشمسية وفرت بديلاً نظيفًا وصديقًا للبيئة، إلا أن سوء استخدامها قد يحوّلها من حل إلى مشكلة، ومن وسيلة إنقاذ إلى وسيلة استنزاف.
الري الشمسي: فجوة متنامية بين المزارعين
في بلد يعاني من شح مزمن في المياه، يُعد استخدام تقنيات الري الحديثة الموفرة للمياه ضرورة ملحة لا خياراً، ومع تصاعد الاعتماد على الطاقة الشمسية في الزراعة، برزت تحديات جديدة تهدد التوازن البيئي والاجتماعي، وفقًا لدراسة أصدرها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
تؤكد الدراسة أن استخدام أنظمة الري بالطاقة الشمسية يمثل فرصة مهمة لتجاوز أزمة الوقود، لكنه في المقابل يطرح إشكالية كبيرة تتعلق باستنزاف المياه الجوفية، خصوصًا في ظل غياب الرقابة وضعف التشريعات المنظمة، كما حذّرت من تفاقم التفاوت الطبقي بين المزارعين، حيث إن كلفة رأس المال المرتفعة لتلك الأنظمة تجعلها حكراً على كبار ملاك الأراضي، ممن لديهم القدرة المالية لتركيبها وتشغيلها، في حين يعجز معظم صغار المزارعين عن اللحاق بركب هذه التقنية.
في حوض صنعاء، يستخدم نحو 31% من المزارعين أنظمة الري بالطاقة الشمسية، وهي نسبة آخذة في الارتفاع بمعدل 4% سنويًا؛ ومع ذلك، فإن الفئة المستفيدة من هذا التوسع هي تلك القادرة على تمويل هذه الأنظمة، أو من تزرع محاصيل عالية القيمة تجلب عائدًا ماليًا يبرر كلفة الاستثمار, أما صغار المزارعين، فيواجهون تحديات جمّة في تبني هذه التقنية، حتى في المناطق التي يسهل فيها الوصول إلى المياه مثل حضرموت وتهامة.
وتشير الدراسة إلى أن هذه الفجوة بين المزارعين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعًا، ما ينذر بتغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة في بنية المجتمع الريفي، خاصة أن الزراعة تُعد مصدر الدخل الرئيسي لكثير من الأسر.
ورغم التحذيرات، تؤكد الدراسة أن تعزيز استخدام الطاقة الشمسية في القطاعات المنزلية لا يزال خيارًا استراتيجيًا مهمًا، خاصة في الريف اليمني، حيث بدأت آلاف الأسر الفقيرة بجني ثمار هذه التقنية, غير أن توسيع استخدامها في الزراعة لا بد أن يرافقه وعي بيئي وسياسات واضحة تضمن عدالة التوزيع واستدامة الموارد.
بين الحاجة والحذر البيئي
منذ عام 2014 ومع تصاعد أسعار الوقود ونُدرته، وعجز الدولة عن توفير الكهرباء، لجأت العديد من الأسر والمؤسسات إلى حلول بديلة, وقد ترتب على هذا الواقع انقطاع شبه تام للخدمات الاجتماعية الأساسية، بما فيها التعليم، الرعاية الصحية، وإمدادات المياه، ما جعل من الطاقة الشمسية خيارًا لا مفر منه.
في هذا السياق، يروي مهيوب السعدي، أحد المزارعين في المناطق الريفية بمحافظة حجة لـ”سقيف”، كيف اضطر المزارعون لتحويل آبارهم اليدوية إلى آبار ارتوازية أعمق نتيجة جفاف المياه السطحية, ويُظهر هذا التحول كيف أن الطاقة الشمسية ساعدت المزارعين في تشغيل المضخات وسد احتياجاتهم الزراعية، إلا أنه يطرح في ذات الوقت تساؤلات جادة حول استدامة هذا الاعتماد المتزايد، لاسيما في ظل الضغوط المتواصلة على الموارد المائية.
من ناحية أخرى، أدى غياب الدولة وضعف الرقابة إلى اعتماد غير منضبط على الطاقة الشمسية، وهو ما حوّلها من حل عملي إلى مدخل لأزمة بيئية جديدة تهدد الأمن المائي في البلاد, فالمزارع الذي وجد في الطاقة الشمسية وسيلة سهلة لتشغيل المضخات، لا يلتزم غالبًا بسقوف الاستهلاك أو مبادئ الحفاظ على المياه.
ويؤكد المهندس عبدالله ناصر، باحث في دراسات مشاريع الطاقة ومنظومات الري، أن معظم المشاريع التي كانت تُدار بدعم حكومي ومنظمات دولية توقفت، ليحل مكانها استثمارات فردية غير منظمة, ويضيف لـ”سقيف”: “المزارعون باتوا يعتبرون الآبار وما عليها ملكيات خاصة، ويقومون بتركيب شبكات الري بأنفسهم, لكن المشكلة تكمن في الإسراف الكبير في استخدام المياه، وسط غياب واضح لأي رقابة فعلية، واستمرار الفجوة بين التشريعات وقواعد الواقع”.
ويضيف، “يبدو أن الطاقة الشمسية قد وفرت لليمنيين طوق نجاة في لحظة حرجة، لكنها في غياب سياسات حكومية واضحة ورقابة فعالة، تحولت إلى سلاح ذي حدين؛ إذ تهدد بفقدان مورد ثمين لا يمكن تعويضه بسهولة: المياه الجوفية”.
غياب التخطيط يهدد الزراعة والأمن المائي
في مديرية الشاهل, بمحافظة حجة شمال اليمن، يجلس المزارع عايض زيد أمام بيته الطيني، مثقلًا بالهموم وهو يراقب حفيدته الصغيرة تلهو أمامه, لم يكن يتخيل يومًا أن يعجز عن فلاحة الأرض التي ورثها عن أجداده، تلك الأرض التي كانت يومًا مصدر رزقه ورزق أسرته.
يقول بحسرة لموقع “سقيف”: “كانت بئري شريان الحياة، لكنها جفت وكأنها ودعتني للأبد.” رغم محاولاته المتعددة لإنقاذ مزرعته، وشرائه منظومة طاقة شمسية لتشغيل مضخة المياه، إلا أن الجفاف كان أقوى، والماء نضب من الأعماق. ومع نضوب الماء، غادرت أحلام عايض، وتبعثر أفراد أسرته؛ أولاده غادروا القرية بحثًا عن العمل في المدينة، وابنته الصغرى تركت مقاعد الدراسة لعجزه عن دفع رسوم المدرسة. “زمان، كانت الأرض تكفينا، واليوم نبحث عن أي شغل أو ننتظر المساعدات”، يضيف بأسى.
هذه القصة ليست استثناء، بل صورة مصغّرة لمأساة أوسع يعيشها آلاف المزارعين اليمنيين، في ظل غياب التخطيط الزراعي المستدام وسوء إدارة الموارد المائية.
في ظل التوسع المتسارع في استخدام الطاقة الشمسية في اليمن، يبرز ترشيد استهلاك هذه الطاقة كضرورة ملحة لضمان تحقيق الاستفادة القصوى دون التسبب في آثار بيئية سلبية أو استنزاف إضافي للموارد الطبيعية، وعلى رأسها المياه الجوفية, ولا يكفي اعتماد الطاقة الشمسية كبديل نظيف ورخيص؛ بل لا بد من ترشيد استخدامها وتوجيهها ضمن رؤية بيئية متكاملة، تحقق التوازن بين احتياجات الإنسان ومتطلبات الحفاظ على البيئة واستدامة الموارد.