الكاتب: محمد نبراس العميسي.
ها هو العيد قد مضى، ترك خلفه ضحكاتٍ على أطراف الذاكرة، وأكواب شايٍ مُحلّى بذكريات العائلة، وغبار ألعابٍ تقافز فيها الأطفال كأنهم يهربون من زمنٍ ثقيل. واليوم، تعود الحياة إلى مستشفى كرى العام، كما يعود النبض إلى قلبٍ هدأ قليلاً ليستريح.
منذ ساعات الصباح الأولى في يوم السبت، بدأت الوجوه المألوفة تتقاطر إلى المكان، بعيونٍ لم تزل معلقةً في فرح العيد، وخطى تحمل مسؤولية المهنة كما تحمل الأرواح إلى برّ الأمان. ارتدت الأقسام ثوبها المعتاد، مزيج من الصرامة والرحمة، من العجلة والتركيز، ومن التوتر الإنساني العميق الذي لا يعرفه سوى من يعمل في هذه المهنة المقدسة.
الأطباء، أولئك الذين اعتادوا أن يؤجلوا فرحتهم لصالح وجع الآخرين، عادوا إلى مواقعهم، لا يشكون من ضيق الإجازة، بل يبتسمون كأنهم يدركون أن هذا هو قدرهم الجميل، أن يكونوا للناس في ساعات ضعفهم. الممرضون والممرضات، بطقوسهم اليومية الدقيقة، عادوا يتفقدون الأسرة، يضبطون الأجهزة، ويطمئنون القلوب المذعورة بكلماتٍ بسيطة تحمل طمأنينة العارف.
المرضى، من جهتم، لم تغادرهم الآلام حتى في أيام العيد، لكنهم اليوم يستقبلون الوجوه العائدة وكأنها بشرى، وكأن الدواء لا يبدأ من وصفةٍ طبية، بل من حضورٍ حنون، ونظرةٍ تقول: “عدنا، ولن نترككم وحدكم.”
استئناف الدوام في مستشفى كرى ليس مجرّد انتظامٍ إداري بعد عطلة فحسب، إنه استئنافاً لمعنى أكبر، استعادةً لدورٍ لا يُؤجل، لوظيفةٍ لا تعرف الكلل، ولمسؤوليةٍ لا ترتبط بتقويمٍ سنوي، بل بنبض كل إنسان يحتاج إلى رعاية.
إنها العودة التي لا تشبه سواها؛ عودة الحياة في أكثر أشكالها رحمةً وعطاء.